مصطفى ناجي
جلَسَت في الطاولة الثانية في المقهى تتحدث إلى صديقتيها، كانت ترتدي جاكيت صوفي بكاروهات ابيض واسودّ ووضعت على وجهها نظارات شمسية مع اننا في الشتاء والشمس من خجلها بالكاد تظهر في الأسبوع مرة.
ثلاثتهن يتحدثن بصوت خفيض على غير العادة. ففي كل مرة يلتقين صباحا ويتحدثن بصوت عال فسرته انه بسبب شيخوختهن وفقدانهن للسمع جزئيا ما يضطرهن إلى التصارخ وهن متجاورات.
اقترب منها صاحب القبعة الكابوي. وقف أمامها وهو رجل رفيع القامة شديد البنية رغم تجاوزه الستين ودائم الاناقة بشوش الوجه.
لا يتوجس من الحديث مع رواد المقهى خصوصا من العرب والأتراك. يمازحهم، ويستخبر عن أحوالهم. كان قسيسا ينشط في جمعية دينية تبشيرية. باشرني الحديث قبل فترة وحكى له طفولته في هذه المدينة قبل اكثر من نصف قرن.
قال لها:
كارول! إني أشعر بما تمرين به في هذه المحنة وأتعاطف معك في هذه اللحظة.
تحدث اليها بصوت رسمي رصين شديد الوقار مهيب.
التفتُ نحوهما ووجدته ما يزال يتلو عليها:
أظنه الآن يرقد بسلام. الموت نوم طويل بلا احلام. وأنت متعبة لأنك فقدتي سندك. الفقيد سند
قالت له: خمسون عاما. وكررت: خمسون عاما.
كانت تأتي ورفيقها العجوز كل صباح، تُجلسه إلى كرسي وتركز عصاه ثم تذهب تبحث لهما عن كاسي قهوة وكرواسون وصحيفة وتنتظر قدوم رفيقتها العجوزتين.
أربعة يلتفون كل يوم يتبادلون الحديث عن الأدوية ومواعيد الأطباء ومشاريع الإجازة القادمة في البرتغال.
كانت كارول ممتلئة القوام بما يليق بشيخة وكانت أكثرهن أناقة وما تزال شديدة القوام مع عرج قليل. فطنة في التعليق وسليطة اللسان ولا تتردد في قمع ما لا يروق لها، محافظة الذهن متدينة كصاحبتيها.
اقتربتُ منها وسألتها: سيدتي! هل فقدتي قريباً؟
أجابتني: نعم. زوجي پيير. غادرنا قبل أيام بعد أن مكث تسعة أيام في المستشفى.
كان سيلج في عمره 93 بعد شهرين.
تلعثمتُ في كيف أواسيها. تفحصت وجهها. لم تضع اي مساحيق تجميل وتركت وجهها الثمانيني يتبدى دون أي ترددد. شعرات مغروسة هناك وهناك وشفاه ضامرة وتجاعيد حادة وحسن مع حزن عميق.
كان پيير مثلها قصير القامة إلا انه اشد نحافة. يبلغ المقهى بعناء لكنه يحتفظ بصفير تنفسه ولازمة تشبه الفواق المكتوم.
لم يكن أحد يخطئ التقدير إذا قال أنهما اكثر اثنين متحابين في هذه المدينة.
كانت كارول حادة الطباع مع الآخرين لكنها مع پيير مطيعة كطفل متعلق. تحتمل غضبه وإرهاقه وتخاف عليه كابنها مع انه يكبرها.
قبل أسابيع هنأته في سريرتي على توفيقه بزوجة ترعاه حتى آخر نفس. واليوم أتلعثم في تعزيتها.
لقد مات پيير وبقيت كارول عصفورة وحيدة لربيع متأخر.
اتحدث اليها عن السلام الأبدي وهي تشرد في عينيها تفكر في ما بعد نصف قرن من العشرة.
* من صفحة الكاتب على فيسبوك