وأنوارهم التي أضاءت الزمان والمكان لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك..
لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
أنت الواحد الأحد لا معبود سواك ولا إله غيرك ولا من أحد يستحق الحمد والعبادة غيرك، إنها تلبية التوحيد التي مازالت تدوي في جنبات الزمان والمكان، وتطرب المخلوقات كافة، ومعها يتزين المكان (أم القرى) والمشاعر الحرام التي خصها الله بنعمته وسره منذ أن قدِم أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام مع زوجته هاجر وابنهما إسماعيل لتبدأ مرحلة الروح، وخيط نور متوهج ممتد من العرش إلى مكة يشع عبر الدهور ويتوهج دون انطفاء وتهفوا إليه الأرض والقلوب من أطرافها.
(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
دعاء إبراهيم النبي المؤمن وقلب الأب المفارق والزوجة المرتجفة؛ فقد تركهما في صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا زرع ولا أنيس غير الخواء والوحشة وهجير الصحراء، فكيف تركهما ومضى؟؟؟!!! أمسكت به هاجر متسائلة تساؤل الأم المذعورة: كيف تتركنا هنا وحدنا أنا وطفل رضيع؟ سؤال يخلع القلب، وقبل أن يجيب إبراهيم أردفت سائلة: هل أمرك ربك بهذا؟ ولما كانت الإجابة بنعم قالت إذًا لن يضيعنا!! وهنا يتدخل اليقين لمواجهة كل المخاوف وكل الموحشات، اذهب فنحن في كنف الله…
ولك أن تتخيل الأمر هنا خاصة بعد غياب طيف الأب وغروب أثره وهجوم ظلمة الليل ووحشة الصمت وثقل السكون وصقيع الوحدة، لقد ترك لها طفلا وشيئا من الماء والزاد.
يا لها من امرأة عظيمة عظمة الزمان والمكان..
عظمة الروح والنور.
وما إن نفِدَ حتى بدأ القلق ووجع الأم يحركه طلب الطفل وحاجته إلى الماء..
لقد كان الزمان والمكان والملكوت والملائكة ما نعلم وما لا نعلم يرقبون قصة امرأة تواجه وحدها بيقينها وحشة الفناء، وكانت الحركة ودق باب الأسباب بابا للفرج، وكان الأمل زاداً وحياة وانتصارا على الظروف، ومثلما أوحى الله لمريم (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا)؛ ألهم الله هاجر ألا تستسلم للواقع؛ ففي الحركة المصحوبة بالتوكل بركة ونصر وذخيرة وزاد.
لقد أخذت تهرول من الصفا إلى المروة هكذا مجرد هرولة، وهذه الهرولة قد لا تبدو مجدية؛ لكنها هنا دعاء واستجلاب قوة.
إنها تبحث عن الماء..
تأتي وتذهب بين الصفا والمروة؟ ما الذي يمكن أن تصنع هرولة امرأة مفجوعة ذهابا وإيابا في صحراء قاحلة لا شيء فيها غير صحراء مشبعة بالرمال وعواء ذئب بعيد…
لا شيء؟! غير أن وراء الهرولة والتوكل ما يفجر الأنهار.
بعد سبعة أشواط من الهرولة نبع ماء زمزم، وكبرت الأكوان والمخلوقات فرحا وحمدا لله، وكانت الطيور أول الحضور والمبتهجين، واستقرت هاجر بطلة الحدث العظيم لِتَزُمَّ الماءَ وتسقي الطفل النبي إسماعيل، وتبدأ نقطة حياة لا تتوقف، وليمتلئ المكان كما لم يمتليء مكان قط، ولتتبدل الأمور وتتغير الوحدة أنسًا وازدحامَ ناس، فما أن رأت قافلة عابرة لقبيلة جرهم اليمنية الطير يحوم حتى علمت وجود ماء، وانتهى بها الأمر لتستقر هناك وتبدأ مع هاجر وإسماعيل حياة جديدة، استجابة لدعوة إبراهيم وقبلها وبعدها سر الله وارادته.
إنها المرأة التي خلقها الله سرا من أسرار الحياة وصناعة الأحداث وإنجاب الأنبياء والرسل وصناعة التحولات.
أمام هذه الصورة لهاجر وإسماعيل تحضر صورة أخرى مكملة ومتممة للدين والنعمة لإنعاش الروح والنور التام إنها(آمنة بنت وهب) مع خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم وهي ذاهبة مع ولدها الطفل البالغ من العمر ست سنوات وحاضنته (أم أيمن) لزيارة قبر زوجها عبد الله بن عبد المطلب في المدينة والد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند العودة وفي الطريق تمرض آمنة مرض الموت، و تعلم أنها ستفارق الحياة ونظرها إلى طفلها يتيم الأب لا يتحول، فتحس أنه سيكون يتيم الأم أيضا فتستجمع عواطف الأم منذ أن خلق الله آدم وحواء وتضمه إلى صدرها وهي تقول: (أي بني كل جديد بال، وكل كبير يفنى وكل حي ميت) وتسلمه لأقدار الله وتلفظ أنفاسها لتحضر وحشة الصحراء وأزيز الريح لتبدأ صناعة الحلقة الأخيرة من المشهد العظيم وسط الوجع والقسوة والبعد.
أخذت أم أيمن تحفر القبر وتبكي وتطلب من الطفل مساعدتها لمواراة أمه في التراب وعند الانتهاء يتسمر الطفل، فتسحبه الخادمة بلطف وهو يقول أمي أمي.. صورتان لامرأتين وطفلين تكاملا في صناعة النور وتقاسم الأحزان والقسوة، وكأنها لازمة لاستكمال الرحمة وكمال الإنسانية.
هاجر وإسماعيل..
آمنة ومحمد، نذكرهم اليوم والملايين تلبي في عرفات وبين الصفا والمروة، وها هي الدنيا كلها تلبي بصوت واحد ومعهما تهتز المعمورة بنفس الصوت وتوحيد الخالق، وتعاد في ذاكرة الزمان قصة من أعظم قصص الإنسان.
اللهم صل على محمد صلاة دائمة، وسلام على إبراهيم وإسماعيل وهاجر، ورحم الله آمنة بنت وهب برحمته التي وسعت كل شيء.
(من صفحة الكاتب على الفيسبوك)
الخبر السابق